عن اعمال سيروان باران : تنويعات على ثيمة واحدة

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
31/10/2010 06:00 AM
GMT



(الصورة : سيروان باران)
اعتمد الفنان سيروان باران في معرضه الذي اقيم في دمشق على ثيمة تتحدث عن نفسها ، أوتتداعى من نفسها في حالات وأوضاع مدركة أو مخمنة أو متوقعة. انها حركة عاطفة ، واوضاع جسد ، ورغبة ، وملامسة .. وباختصار انها القبلة!
ما الذي نتوقعه؟ الكثير. ربما على عدد الناس الذين نعرفهم ولا نعرفهم، الذين جربوا القبلات كتعبير عن غرامياتهم السعيدة وأرادوا المزيد منها أو من خيّبت آمالهم وخرجوا من التجربة بوعد الانتباه في المرة القادمة، الحسّيون بلا اشباع والمتأملون عند أقل ملامسة ، المتسامون الروحانيون والايروتيكيون الذين يشركون خيالهم ، التذكاريون الحزانى والمستعجلون المتقلبون في المزاج والرغبة.
بالامكان ان نتحدث مطولا ههنا وننتقل الى الادب ، حيث الكلام يجر الكلام ، والنماذج الانسانية التي نعترف انها لا تحصى تتكاثر وتنقسم عندما تلتحق بها الرؤى والافكار والحساسيات والاحتياجات العاطفية. لكن دعونا نتفحص ما تظهره اعمال سيروان عن القبلة، أعني رؤيته الخاصة. فهو من الوهلة الأولى يرتفع بملامسة الشفاه الى حالة من العناق المثير الذي يرقى الى الاندماج بين جسدين . القبلة عنده تكف عن أن تكون مجرد ملامسة عادية بين شفتين بل هي استغراق ، وتوحد ، ووله ، وامتزاج الى حد اختفاء فردية الجسدين وتحوله الى جسد واحد ، بل الى كتلة متراصة. والحال أن الفنان يجري تحديدات فاترة ، وخطّية ثاوية بوجه خاص، ليشير الى وجود جسدين ، ولاسيما خطوط الاذرع ، وأحيانا الرؤوس التي استبعد الفنان ملامحها الشخصية، أما السيقان التي نتوقع انها ستكون محددة بعض الشيء ، بسبب خواصها النافرة والمتحركة ، فقد اختزلها في اكثر اعماله ، وقربهما من نتوءات صغيرة شبه حيوانية. وإذا ما بدا مثل هذا الاجراء غريباً ، ولاسيما أن خطوط السيقان تهب للجسد  توازنه الطبيعي وعناصر القوة الديناميكية في الشد والارخاء والتعبير العاطفي في الاحتضان ، فلا أرى في هذا الاختزال التعبيري والتجريدي الا كإجراء يبقي على الحجم الجسدي في حالة مستقرة، ويهب لوزن الكتلة التعبيري ثقلا اضافيا، ويقلل من التشتت البصري الذي تثيره حركة الاقدام ، أو خطوطها الخارجية الرشيقة المنسرحة .
إن هذا التفسير الفني لا ينفي وجود ملامح تعبيرية خاصة بالمبالغة او التشويه ، او وجود نوع من التداعي الرمزي لفكرة الجسد. 
يلجأ الفنان الى اجراء اضافي لتعزيز الحسّ بالكتلة وتماسكها التعبيري ، باختيار قياسات كبيرة في المساحة، مع ضمان اشتغال هذه المساحة كخلفية. هذا التدبير يقوي عرض الكتلة في تمايزها الشكلي والتعبيري العاطفي، ويموقعها في اسقاط حاد. بيد أن الفنان الذي الغى الوضعيات الطبيعية في بناء اللوحة وبناء اشكاله على حد سواء ، يفضل كما هو واضح العرض الفني كفضاء تعبيري عام، ويلغي، وأحيانا يضعف، أي علامات نستنتج منها وجود اطار استناد مكاني أو ما يشير الى ذلك.
سواء كشف لنا سيروان عن فكرته المثالية عن الوضعيات الحميمية أو أخفاها ، فإنه لا يستطيع ان يواصل لونه العاطفي الجاد عنها الى النهاية. ذلكم هو شأن الحكايات الغرامية كافة التي لا يمكن اخفاءها عن العقل في نكده المعتاد وتشاؤمه الذاتي ، فيحولها الى شغب وهزل. هذا ما سوف يفعله سيروان في النهاية ، عندما يصور وضعيات نبتسم لها لأنها إما تبدو غريبة بعض الشيء مسّتها يد مرحة، وإما جاءت كاستطراد لتعبيرية اسلوبية تلفق وتصوغ اوضاعا ونسباً مشوهة أو مبالغ بها. لكن هناك ترابطات فنية وظيفية تجعل من ذلك الشغب مبررا على المستوى الفني، فهو يظهر في حالتين : الأولى عندما يفصل الفنان بين الرجل والمرأة، أو بين كائنين بوجه عام، ويظهرهما كجسدين منفصلين، فكأن هذا الانفصال يقوي تلقائياً وعيهما الذاتي على نحو ينظران الى جسديهما من الخارج كما يفعل الوعي الذاتي المعتاد حقا. والثانية عندما يستخدم الخطوط والشرائط اللونية في تعابير عاطفية شبه دائرية مثيرة لبناء اشكاله ، فهذا الاسلوب يعبر عن حركة تتجه الى الخارج ثم تعود ادراجها.
بدأ سيروان فنانا واقعيا ، يفاجئنا بين الحين والحين برسوم خيالية وتعبيرية . وقد احب رسم الخيول ، وبعض الحيوانات الاخرى، ورسومه عنها تمتاز بحيوية تعبيرية ورغبة بالتجريد ، رغبة نراها مجسدة في اطلاق اجساد الحيوانات من أسرها البيئي. لقد صور الخيول طليقة ، شرسة بعض الشيء، متحركة، ومتخبطة في حركتها احيانا ، شقية وحزينة، تقوم بدورانات هائجة. في النهاية أوقف سيروان هذا العرض الجسدي المتحرك ليقترب منه ككتلة حزينة بخطوط رشيقة. لقد أوقف الهياج وبدأ التأمل ، فراح يصنع اعماله من تكرار مقاطع جسدية من الخيول.
ثمة فترة اختار فيها سيروان ان يكون تجريديا، الا ان تجريديته تبدو مثل حركة اقتراب شديد من جسد ما. قد يسمح لنا هذا الانطباع بالتوصل الى اقتراح قابل للنقاش، فلعلّ اقترابه من اجساد خيوله أفضى به الى نتيجتين مختلفتين : الاولى هي التجريد عن طريق تضييع التفاصيل والخطوط المحيطية ، والثانية اسقاط جسديات قوية على السطوح. والنتيجة الثانية نجدها في اعمال هذا المعرض.
في الاعمال الفنية تتحول التصاميم والافكار التشكيلية على نحو ليس من السهولة ردّها الى دوافع او الى جذور. إن ما هو مثير في اعمال سيروان انه يسقط كتله المشغولة بشغف على مساحة واسعة. تلك جرأة منه ، جرأة اريد منها المحافظة على الشكل القوي والمثير في علاقة قلقة بالمساحة.
الحل فني .. لكنه يقع ضمن ترجيحات الحالة الغرامية : لا أحد!